الجمعة، 8 يونيو 2012

شرِكة وبَنات



(1)
بَناتُ الدهرِ بالعراقِ ذواتُ قُربَى ، بينهنَّ وَشائجُ مَفتولة ، وإنّا لفِي لِهْيانٍ عن التفكّرِ ونُفورٍ مِن الاعتبارِ ، وذلكَ مِمَّا يُوقِظُ ثعابينَ النكباتِ أنفُسِها فَينةً بعدَ فَينةٍ ؛ فإذا زُحزِحَ العراقيُّ عن رَزِيَّةٍ لا يَلبَثُ أنْ يُساقَ إلى وَحْلِ ثانِيةٍ ؛ ويُنشِدَ قولَ الشريفِ الرضي :
أفِي كلِّ يومٍ يعدمُ الدهرُ جانبي 
وتقرَعُني من ناظِرَيهِ القوارِعُ
وفي فجائعِنا تحتلفُ الأسامِي لا غيرُ ؛ رَوَى أبو حيانٍ 
التوحيديُّ في سِفرِهِ البديعِ " الإمتاعُ والمؤانسة" أُحدوثة عن 
بعضِ أهلِ زمانِهِ كأنها قائمة على مَقربةٍ مِنّا ؛ وها هي
:{ قال لنا القاضي أبو حامد المَروَرُّوذي ... انظر إلى فَضْلٍ ومَرعُوشٍ – وهما مِن سَقـَطِ الناس وسِفلتِهم – كيف لهَجَ الناسُ بهما حتى صار جَمِيعُ مَن ببغدادَ إمَّا مَرعوشِيًّا وإمَّا فضلِيًّا .ولقد اجتاز ابنُ معروفٍ -وهو على قضاءِ القضاةِ- ببابِ الطاقِ فتعلقَ بعضُ هؤلاءِ المُجَّانِ بلِجامِ بَغلتِه ، وقال : أيها القاضي ، عَرِّفنا ، أنتَ مرعوشيٌّ أم فضليٌّ ؟ فتحيَّرَ -القاضي- وعَرَفَ ما تحتَ هذه الكلمةِ مِن السَّفَهِ والفِتنةِ ، وأنَّ التخَلصَ بالجوابِ الرَّفيقِ أجدَى عليه مِن العُنفِ والخُرْقِ وإظهارِ السَّطوةِ ، فالتفتَ إلى الحرَّانيِّ –وكان معه وهو مِن الشهودِ – فقال : يا أبا القاسمِ : نحنُ في مَحلةِ مَن؟ قال في محلةِ مَرعوشٍ ؛ فقال ابنُ معروفٍ كذلك نحنُ – عافاكَ اللهُ- مِن أصحابِ مَحلتِنا لا نختارُ على اختيارِهم ولا نتميزُ فيهم ، فقال العَيَّارُ : امْشِ أيها القاضي في سِترِ اللهِ .. }. (الإمتاع والمؤانسة،ج3 ،ص 188، المكتبة العصرية).
تلك فِتنة قد خلتْ ، فانقلبَ إليها الطُّيَّاشُ في زمانِنا ؛ فبِها قِيامُ مَعاشِهم وزِمامُ سُؤددِهم، ومَرَضٌ بالإنسانِ أنْ يحسبَ الخيرَ في قومِهِ خالِصًا والشرَّ في غيرِهم خالصًا. لو مَرَّ (جيامباتيستا فيكو ) على دِيارِنا وتنظَّرَ في وَحشَتِها لارتدَّ عن قانونِهِ في أطوارِ الأُممِ ؛ فهو يرَى البَشرَ أوباشًا ثمَّ "يَتدَيّنونَ" ثمَّ يُنشِئونَ قوانينَ ودولةً ، وفي العراقِ مُزِجَتْ ثلاثةُ الأطوارِ في مَهرِجِ سياسةٍ طارِئٍ! وكم مُتمَنٍّ كانَ يتوهَّمُ أنه صائرٌ مِن بعد الغزوِ إلى نعيمٍ مُقِيمٍ فأفزعَهُ أنْ رأى العراقَ نُهْبَى مَبسُوطةً على جادَّةِ الأشرارِ ، وازدادَ المُتمَنُّونَ انتِباهًا لمَّا عَلِمُوا أنَّ لبْسَ الدينِ والقومِ بالسياسةِ وَخِيمٌ مَبدَؤهُ ومُنتهاهُ ؛ أمّا مَبدؤهُ فأهواءُ الساسةِ سَوَّلتْ لهم أنْ يَتوَزَّعُوا البلادَ توَزُّعَ دِينٍ وقومٍ فحازُوا خَزائنَها وأضاعوا العراقَ وأهله كما فعَلَ الأوائلُ ، وأمّا مُنتهاهُ فمَعرِفة العراقيينَ أنَّ توَزُّعَ ساستِهم فتحَ عليهم في تسعِ سِنينَ أبوابَ بَلاءٍ لا تُغلَقُ. وليس في ذمِّ الشِّركةِ السياسيةِ فرصةٌ لاستبدادِ والٍ ولا مَرغَبٌ في استعلاءِ فئةٍ، لكِنّما فيهِ استِبْصارُ حقيقةٍ بَلجاءَ ؛ يعرفها الناسُ كما يَعرِفونَ أبناءَهم ؛ وهي أنَّ الشَّرِكة في المَشْرُوكِ فيهِ إمَّا اشتراكٌ في قِيادةٍ وانتفاعٍ وإمَّا اشتراكٌ في انتفاعٍ دونَ قِيادةٍ ،وليس وراءَ هاتَينِ الصُّورتَينِ شركة ٌ؛ فإنْ أُقِيمَتْ أُولاهما فنِعِمَّا هَيَ وإذا أُقِيمَتْ الأخرَى ففيها كِفاية، وإليكم مَثلاً : قِطارًا عليهِ أشتاتٌ مِن المُسافرينَ ؛ وِجْهتُهم واحدة ؛ فإذا قائدٌ ماهِرٌ بَلَّغهم إيّاها أثنوا عليهِ وآثرُوهُ لِمَهارتِهِ ،وما هم بسائلِيهِ عن شأنِهِ ،كيف تنشأ الصُّورتانِ بل أُخراهما في سُرادِقٍ "إلهِيٍّ" وعِرقيٍّ تمُوجُ فيهِ الأحقادُ مُتقدِّمُها ومُتأخِّرُها ، وصانِعُوهُ مُتغالِبُونَ وساعٍ بعضُهم لِإذلالِ بعضٍ وتذلِيلِهِ ؛ فمَن غلَبَ  يَعلُ ويَظفرَ بأكبرِ مَغنمٍ وأوسعِ مَقدرةٍ .
وتعافُسُ الساسةِ وتراشُقُهم في الدولةِ "الإلهِيَّةِ" أو العِرقيةِ مَعلومٌ بالمُشاهَدةِ ، والعامَّة والخاصَّةُ سِيَّانِ في التفطُّنِ لهُ ؛ ويا حَبَّذا العامَّة.
أرَأيتَكم لو أنَّ مَعبَدًا فيه مُصلّونَ ولهم فقِيهٌ "يَرعاهم" فأتاهم فقيهٌ ليس على طريقتِهم ؛ أيَأذنونَ أن تكونَ له الفَقاهة والرعاية دُونهم ؟!
أرَأيتَكم لو أنَّ قرية بها قومٌ ؛ لهم هيئة ولغة ؛ فنزَلَ بهِم سيِّدٌ لا يُشبهُهم في شيءٍ ؛ أيَجعلونهُ مَولىً عليهم لهُ مَقالِيدُ المُلك ؟!.
ذانِكَ المَعبَدُ والقريةُ هما قِوامُ دولةِ المَفارِقِ ، فمَن ذا الذي يَطمَعُ أنْ يرَى المُشترِكينَ فيها مُتّفِقينَ على قضيةٍ ؟! وكيف يتوافقونَ والمعبدُ والقرية صارا مجلسَ نوابٍ وحكومة ً ؟!. ومِن عجيبِ التصادُفِ أنَّ ( الشَّراكة ) اشتقاقٌ 
مُحدَثٌ ؛ لا ذِكرَ له في مَعاجمِ العربيةِ الأصيلةِ 
ولا يدلُّ عليهِ قِياسُ التصرِيفِ ، والفصِيحُ : شِرْكة أو شَرِكة أو شِرْكٌ أو إشراكٌ أو مُشارَكة أو تشرِيكٌ أو اشتراكٌ أو تشارُكٌ ، وسُبحانَ اللهِ ! اجتعمتْ بدعتانِ : سياسية ولغوية.
في مَواطِنِ الديمقراطيةِ إذا أُسنِدَ الأمرُ لِحِزبٍ ما ؛ فإنَّ سائرَ الأحزابِ لا خَوفٌ عليها ولا أذِيَّة ؛ فالديمقراطيةُ عندهم ما هي بانتخاباتٍ يَعِزُّ المُقبلونَ عليها ويَهُونُ المُدبرُونَ عنها ؛ إنما الديمقراطية سُنَنُ حياةٍ عَمِيمٌ نفعُها ، فيها خصائصُ حَميدة ، أرقاها أنْ يتولاّها مؤمِنٌ بها خالِصُ الإيمانِ ؛ لِيجعلَ الدولة حِرْزَ مُواطِنيها ومَقصِدَهم جميعًا في رَغدةِ الأمنِ ورَعدةِ الخوفِ ، ويومئذٍ تخبُو الفتنة وتزهُو الأُلفة ويَطمئنُّ الأناسِيُّ فلا يَمِيلونَ إلى نِزاعٍ ولا قِراعٍ ، وفي قولِ (كثيِّرِ عزّة) رَدعٌ لِذوي الاستبدادِ ؛ لو يتّعِظونَ:
بَلوهُ فأعطوهُ المَقادةَ بعد ما
أدَبَّ البلادَ سَهلَها وجبالَها
بَلوهُ : اختبروه ، أعطوه المَقادة : انقادوا له ، أدبَّ البلادَ : ملأها عدلاً فجعلَ أهلها يَدِبّونَ : يمشونَ فيجدونَ أمنَه وبركتَه في السهولِ والجبال.
والعراقيُّ تتخطّفهُ صائلةُ البأساءِ ويَخشَى وِشاية جارِهِ بهِ والسجونُ جَياعَى والنوائحُ لا يَعلمْنَ الليلَ مِن النهارِ. وأمانُ المُستبدِّينَ أنْ يَملأُوا الأرضَ بجَواسيسِهم وجُنودِهم لِيَسترهِبوا الأنفُسَ والأعيُنَ معًا ، وهم يَخالونَ أنَّ ذلكَ مانِعُهم مِن الزَّوالِ ؛كأنْ لم يكُ لهم سالِفٌ هو أشَّدُّ منهم قوَّةً ، وكلما مَضَى مُستبدٌّ تلاهُ مُستبدٌّ فنسَجَ على مِنوالِ سابقِهِ واتبعَ خُطواتِهِ وزَعَمَ أنه واحِدُ دَهرِهِ ولا قُدمَة له .
وإذا نجولُ في أخبارِ ما تقضَّى مِن مَمالِكِ الطغاةِ نجدُهم يَجزُونَ الحائدَ عن سَبيلِهم بصُنُوفٍ مِن التنكِيلِ ؛ منها القتلُ والسَّجنُ بتبعاتِهِ والنفيُ ، والقرآنُ الكريمُ عَدَّدَها في قولِ الباري -عزَّ وجلَّ- في الآيةِ الثلاثينَ من سورةِ الأنفالِ { وإذ يَمْكُرُ بكَ الذينَ كفروا لِيُثبتوكَ أو يَقتلوكَ أو يُخرِجُوكَ } لِيُثبتوكَ أي : ليَسجنوكَ أو يُوثِقوكَ أو يُثخِنوكَ بالضربِ والجَرحِ{تفسير الكشّاف للزمخشري}.
وعلى ذا النحوِ يَتسلسَلُ الجبابرةُ ؛ يَضجَرُونَ مِمَّن خالفهم فيكيدونَ لهُ أو يبطِشونَ بهِ فتنقطِعُ أواصِرُ الشعبِ فيَتشارَسُ "رُؤَساؤهُ" فيَنحَلُّ رِباطُ حِلفِهم فيَطغَى السلطانُ فيَستأثِرُ بالعَسكرِ لِيُؤذِيَ بهم مُخالفِيهِ فيَنفضُّ الشعبُ شَتاتَ شتاتَ لا رأيَ لهم مُلتئمًا يَعتصِمُونَ بهِ ولا تناصُرٌ منهم على بَغيٍ فيَستضعِفهم أعداؤهمُ المُتربِّصونَ بهم فيَستحِلُّونهم فلا يَنتهُونَ عن نهبهم وضَرِّهم.
ذلكمُ الاستبدادُ المُبتلىَ به العراقُ بالأمسِ واليومَ ؛ فمَن يَرتدِد عنه مِن الوُلاةِ ويقضِ بقضاءِ الديمقراطيةِ تكن لهُ الوِلاية على العراقيينَ حقًّا والمُؤازَرة منهم فرضًا ؛ 
فأينَ قادِرٌ على حِيازَةِ مَنفعةٍ في هيكلٍ إكليروسِيٍّ وعرقيٍّ ؛ يَتدافعُ
 الآلِهةُ في أرجائهِ ويَتنابَزُونَ ويَتغاوَرُون ؟!.
...............
 (2)
استفاضَ الضِّجاجُ في شأنِ "المصالحةِ الوطنيةِ" حتى أضحتْ كالسَّرابِ ؛ مهما يَركضْ طالِبوها خَلفها لا يُدرِكوها ؛ ذلكَ بأنَّ الساسةَ المُتشاجرِينَ هم مُبتدِعُوها  وأقحَموا العراقيينَ المُتآخِينَ في مَسالِكِها الوَعرةِ ، فلا الساسةُ مُصطلِحونَ ولا العراقيونَ مَحفوظٌ لهم مِيراثُ التآخِي ؛ وأنّى يُحفَظُ والسِّياسة مَزَّقتهم شَرَّ مُمَزَّقٍ فأمسَوا مَسحُورِينَ بتُرَّهاتِ المُتسَربلِينَ بسَرابيلِ الدينِ والقومِ ، وجَوهَرُ الخِلافِ بالعراقِ أنَّ كلَّ فِرقةٍ مِن فِرَقِهِ الدينيةِ والقوميةِ تعتقِدُ أنها مَظلومة لا ظالمة وتعتقِدُ أنَّ الرَّفاعة لها والوَضاعة لِغيرِها ، واعتقادُهم الأخيرُ قلَّما يَجهَرُونَ بهِ لكنهُ يُعرَفُ مِن فلتاتِ ألسُنِهم تصرِيحًا أو تعرِيضًا. ولو كان "معروف الرصافي" فِينا لم يَزِد على قولِهِ الأوَّلِ مِن قصيدتِهِ "الدين والوطن":
لا يَخدعَنْكَ هُتافُ القومِ بالوَطَنِ
فالقومُ في السرِّ غيرُ القومِ في العَلَنِ 
والديماغوئية فارَ تنُّورُها عَقِيبَ الغزوِ، فالعراقيونَ على رَغمِهم تابِعُو
"كُبَرائهم" وظانُّو النجاةِ معهم ولو لم يَنفعُوهم ، و"لِلكُبَراءِ" أساطِيرُ ؛ هِيَ مَوازِينُهم ؛ يَسوسُونَ الرَّعِية بها ؛ فمَنِ اقتفى أذيالَهم عزَّ جانِبُهُ ومَن اهتدَى بعَقلِهِ فلن تجدَ لهُ ولِيًّا ولا نصيرًا. يقولُ ابنُ سِينا :{ أحقُّ البراهينِ باسمِ البُرهانِ ما كانَ الحدُّ الأوسطُ سببًا لوجودِ الحدِّ الأكبرِ في الأصغرِ كقولنا : هذه الخشبة تعلقُ بها النارُ ، وكلُّ ما تعلقَ به النارُ احترقَ، فهذه الخشبة احترقتْ} عُيُون الحكمة،ابن سينا،ص33 ،دار القلم( فالعراقيونَ كالخشبةِ وهم الحدُّ الأصغرُ ، وزُعماؤهم كالنارِ وهم الحدُّ الأوسطُ ، والفتنة كالحريقِ وهي الحدُّ الأكبرُ.
ولن يكونَ بالعراقِ تصالحٌ ما دامَ أهلُ السياسةِ مَعاشِرَ شتَّى ؛ وكلُّ مَعشَرٍ يَستعبدُ أتباعَهُ استعبادًا ويُبارِي المَعاشِرَ الأخرى لِإضعافِها والحَجْرِ عليها ، إنَّ ذلكَ التبارِي لهُوَ مَذهبُ أمريكا الديمقراطيُّ بالعراقِ الجديدِ ، ولِمَذهبِ أمريكا عواقبُ واقِعة ومَخوفة ؛ فمِن الواقِعةِ أنْ يظلَّ الساسة أجمعونَ مُتعَلِّقِينَ بالأجانبِ تعَلُّقَ الجَنينِ بأُمِّهِ ؛ ما يَستطيعونَ تصالحًا ولا أمْرَهم يَملِكون. ومِن عواقبهِ الواقِعةِ خَباثِية ُ الصدورِ وضِيقها بما تطويهِ مِن الضغائنِ والتولُّعِ بالثأرِ، وإذما تسألْ غَضْبانَ مُنفرِدًا مِن كلِّ جماعةٍ : أتطِيبُ نفسُكَ إنْ أهلكَ اللهُ الجماعاتِ الأُخَرَ ؟! يُجبْكَ رافعًا صوته ويَداهُ إلى السماءِ مَبسوطتانِ: يا ليتهم يَهلِكونَ كافَّة، وهل أتاكم نبأُ أستاذٍ بالعراقِ دكتورٍ بجامعةٍ ؛ وَدَّ  لو يَستمكِنُ مِن عَفائفِ أعدائهِ مَقتًا لهم ورَغَبًا في إذلالِهم ، وكلُّ أُناسٍ إذا سمعوا بمِثلِ ذا الخَبرِ يَقولُ بعضُهم لِبعضٍ : نحنُ أصفِياءُ اللهِ وأحِبّاؤهُ وما مِنّا مُسيئٌ!. وهذا ما أقرَّه سارتر بقولِه {والواقعُ أننا لا نستطيعُ أنْ نتخذ موقفًا خاليًا من التناقضِ نحوَ الغيرِ إلاّ إذا تبدّى لنا كذاتٍ وموضوعٍ في آنٍ وكتعالٍ مُتعالٍ ومُتعالًى عليه وهذا مِن مَبدئه مُحال}.الغير في فلسفة سارتر،
فؤادكامل،ص71، دار المعارف بمصر.
وفحوَى كلامِهِ امتناعُ أنْ ينظرَ الإنسانُ إلى غيرِهِ كما ينظرُ إلى نفسِهِ ، وإنْ قِيلَ: عَلامَ تغايَرَ العراقيونَ وتضادُّوا ؟! فمِن نافِلةِ العِلمِ أنَّ تحَزُّبَهم مِن تحَزُّبِ ساستِهم وتحَزُّبُ ساستِهم حَزَّبَ الدولة َ دستورَها وعَسكرَها ونُوَّابَها حتى عُمَّالَ مَطاعِمِها. ومِن عواقبِهِ المَخُوفةِ (أعني مَذهبَ أمريكا) توالِي الغزوِ في قابلِ الأعوامِ ؛ فغزوُ ثلاثةٍ وألفينِ صارَ قِياسًا يَتمَثَّلُ بهِ مُستحسِنُو الغزوِ ومُستقبحُوهُ ؛ فمَنِ استحسنهُ -لِيَتبَدَّلَ بالقهْرِ القديمِ غزوًا- فهو يَلوذُ بهِ إنْ تداعَى سُلطانُ إيرانَ ، ومَنِ استقبحَهُ لِذهابِ دَولتِهِ فقد يَستحسِنُهُ إذا اشتدَّتْ الوَطأةُ عليهِ فيَلوذُ بهِ لِيَتبَدَّلَ بالقهْرِ الحَديثِ غزوًا. ألا فلنُبْصِر خِزيَة َ الفوادِحِ ؛ ما أثقلَها ! يَبِيتُ التقوِّي بالغُرَباءِ نقذًا ؛ يَتبادَرُه لفِيفٌ مِن أصقاعِ العراقِ كلِّها. 
وجَورُ الرَّاعِي مَجْلبَة لِخِزيِ الرَّعِيَّةِ لا مَناصَ.
ومِن عواقبِهِ الواقِعةِ اضطرارُ العراقيينَ وهم مُتقطِّعُونَ إلى تقطيعِ العراقِ إقليمًا إقليمًا ؛ إذ يَحسبُونَ أنْ لاتَ حِينَ اصطبارٍ بعد ما ذاقَ بعضُهم بَأسَ بعضٍ واغتمَّ به. وحَقيقٌ علينا ها هُنا ذِكرُ الانتخاباتِ ؛ فليسَ فرْضَ نتيجتِها أعظمُ مَساوِئها وإنما سيِّئتُها العُظمَى أنها مَحياةٌ للنفاقِ ومَدعاة للافتراقِ ، أجل ، فالعراقيونَ وإنِ اختلفوا يَجمعْهم جِوارٌ أو صداقة أو نسَبٌ أو تجارة أو عِشقٌ أو كلُّ أولئكَ ، فإذا عَرَضَتْ لهمُ انتخاباتٌ انطلقَ كلٌّ منهم ليَختارَ عدوَّ صاحبهِ زعيمًا لهُ ، أيَبقى في أنفسِهم بعدئذٍ صِدقٌ ونصحٌ أم رِياءٌ وغِشٌّ؟!. وكانَ الماضُونَ يُوجبُونَ العَمَلَ بشِرعةِ حِزبهم – باكورِ الضَّيمِ- ولهم سِمَة وقدوة وتصوِيرة ؛ فخَلفَ مِن بعدهم خَلفٌ لهم سِماتٌ وقدواتٌ وتصاوِيرُ وقد أوجبوا العَمَلَ بشِرعةِ حزبهم –حَنظلِ الضَّيمِ - المُقتبسةِ مِن غيرِ العراقِ ، وكِلتا الشِّرعَتينِ خائبتانِ ، فهَيهاتَ الصُّلحُ مِن عَسفَينِ: ماضٍ وآتٍ ،ويَتحَقَّقُ علينا غايةَ التحَقُّقِ قولُ "أحمد شوقي" في قصيدتِهِ قِفْ برُوما:
راحَ دِينٌ وجاءَ دِينٌ ووَلَّى مُلكُ قومٍ وحَلَّ مُلكٌ مَكانَهْ
والذي حَصَّلَ المُجِدُّونَ إهراقُ دِماءٍ خَلِيقةٍ بالصِّيانَهْ
يَهِيمُ العراقُ في وادِيَينِ مِن الاحترابِ ؛ دِينيٍّ وقوميٍّ ، والأولُ منهما أبينُ مِن الآخَرِ وأفظعُ منه ، وفي ذلكَ عظيمُ الفوزِ لِلأحزابِ القوميةِ ، فهي نائية عن مَرأى العِراكِ نأيًا مَوهُومًا بحيثُ تبدو كأنْ لا وِزْرَ عليها في (أُمِّ جُندُبٍ) ، والحالُ أنها قسِيمٌ في كلِّ خَطبٍ ، إنها لا تفتأُ تُحَرِّضُ على الانفِصالِ وتُدَبِّرُ لهُ ، وإنها حَجَزتْ بَلداتٍ عراقية ً لا شِيَةَ فيها ؛ وتبتغي انتزاعَها ، وإنها لا تبرمُ حِلفًا إلا حِلفَ مُحاصَّةٍ ومُعارَقةٍ ، وكلما أصابَها مَكرُوهٌ ضَجّتْ واستصْرَخَتْ : يا لـَلْعِراقِ يا لـَلْعِراقِ ، فإذا انجابَ المَكروهُ عنها انكفأتْ على كوخِها ، وإنها لتنالُ حَظًّا مِن المُحافظاتِ الثلاثِ وحَظًّا مِن الخَمسَ عشرةَ البَواقِي ، وإليها رئاسة الجمهوريةِ ووزارة الخارجيةِ خِصِّيصَى ؛ فهي وجهُ العراقِ ورَسولُهُ بين الأُممِ ، ذلكَ ؛ وليتما رُعاتُها راضُونَ بالعراقِ وطنًا جَمُوعًا ومُعِينونَ على مَنعتِهِ وغَنائهِ ؛ إذًا لَتسُوغَنَّ لهمُ الإمارةُ عليهِ ؛ على شمالِيِّهِ وجنوبيِّهِ وشرقيِّهِ وغربيِّهِ وبُحبُوحَتِه ، ولكنهم يقولونَ : نحنُ – على الكراهةِ- عراقيونَ ؛ لعَلَّ غُرابَ البَينِ أنْ يَنعَقَ ؛ فمَتى يَنعَقْ فنحنُ في أثرِ نعِيقِهِ قومٌ آخَرونَ مِن فورِنا !.ولئنْ سُئلوا : أترضَونَ أنْ يَلِيَ أمرَكم والٍ مِن سِوَى قومِكم ؟! ليَصِيحُنَّ : كلاَّ ، وهم يَستخلِصُونَ لأنفسِهم أن يَرأَسُوا العراقيينَ عامّة ! ثمَّ إذا جَلجلتْ ساعةُ الفِراقِ تبرّأُوا منهم ومِن العراقِ بظليفتِه.
..................
(3)
أغرقنا خَرِيفٌ تاسِعٌ مُذ وَقَعَتْ أُمُّ اللُّهَيمِ : الغزوُ ، ولم يُؤتِ مَقصِفُ السياسةِ أُكلاً ، وذلكَ لِعِدَّةٍ مِن العِللِ ؛ منها ثلاثٌ واضِحاتٌ لا تخفى مَعالِمُها :
فمِنهنَّ : أنَّ المحُتلينَ جعلوا مَقصِفَ السياسةِ مَدرَجَةً تنحدِرُ إلى مُغالبةِ "الدينِ" والقومِ ؛ ألا ترَونَ العراقيَّ يَفرَحُ ويأمَنُ بزَعامةِ جَماعتِهِ ، ويحزَنُ ويَفزَعُ بزَعامةِ ما عَداها ؟! والوطنُ والمُواطنةُ مَعدُومانِ ألبتةَ ، وإنْ هما إلاّ أُبطولتانِ كأُبطولةِ السلاحِ المَحظورِ التي افترتها أمريكا وأدِلاّؤها حِينَ الحِصارِ الألِيم.
والثانية :أنَّ مُحتَفَلَ الساسةِ لا يَرَونَ العراقَ وطنًا جامِعًا ، ولا أهالِيَهُ سَواسِيةً في مَكانتِهم وحَقِّهم ، ولا عِناية منهم بعراقيٍّ أُوذِيَ أو هلكَ إلا إنْ كانَ من أنصارِهم.
وثالِثةُ ثلاثٍ : أنَّ أمْرَ العراقِ قِيادَهُ في قبضَةِ دولٍ أخرَى ؛ وذلكَ لِتصدُّعِ الدولةِ وتباغُضِ ساستِها.
هذِي العِللُ الثلاثُ آياتٌ بَيِّناتٌ ؛ ولا يَتنازَعُ فيهنَّ فاطِنانِ ولا غافِلانِ ، اللهُمَّ إلاّ أنْ يَتحاوَرَ فاطِنٌ وغافِلٌ فحِينئذٍ يختلِفانِ لا مَحالة ، وإنِ انقشَعَتْ ثلاثُ العِللِ يكنْ للأمَلِ في النجاةِ نادٍ رَحبٌ للتشاوُرِ.
وإنْ كانَ لِلعالَمِينَ عِبرةٌ فيما نتجَهُ الغزوُ ؛ فهي أنهم إذا عَصَبَتهم نفحَة ُ فِتنةٍ سألوا رَبَّهم : ألاّ يُقضْقِضَهم ما قضْقضَ العراقَ ، ونحنُ بالعِبرةِ أخلقُ مِنهم وأحَقُّ.
فهل عَجَبٌ إذا العراقُ فُتَّ في عَضُدِه فلا كانِفة لنا ولا دِفاعَ بنا لِأنْ نُحامِيَ دُونَه ؟! كلاَّ بل شَغلنا الغطارِيسُ بسَفسافِ المَطالِبِ والمَشاغِبِ ، فترَكنا عُصَيبَة الأعادِي يَأتمِرُونَ بنا فيَرمُوننا عن قوسٍ واحدةٍ فيَرُوغونَ علينا ضُرًّا وعَدوًا وسَلبًا وهُزُوًا ؛ ثمَّ هم يَتعَوَّضُونَ أعواضًا والعراقيونَ مِن لدُنْ طِفلِهم إلى شَيخِهم هَلكَى بالحِصارِ والغزوِ، وما أقرَبَ قولَ البحتريِّ إلى حالِنا:
ما إنْ يَزالُ عَدُوُّهم في نِعمَةٍ
مِن مالِهم ، وصَدِيقُهم في بُوسِ. : بُؤسِ
فهاتِيكَ أُمَمُ الأرَضِ جَميعُِها يَجْبِينَ ويَعبُبْنَ ويَغنَينَ مِن نِعَمِ العراقِ والعراقيونَ أشقِياءُ بها ولا يَنالهم منها سِوى حُتاتةٍ وسُلاتة ؟!.
طِلابُ المَقالِ الجوابُ عن السؤالِ: أمَرعُوشِيُّونَ نحنُ أم فَضْلِيُّونَ أم مِثلُ ابنِ معروفٍ القاضي الذي رَوَى أبو حيانٍ نبأهُ في الأيامِ الذواهِبِ ؟!.
مَن فضلٌ ومَن مَرعُوشٌ ؟ هما اثنانِ في العَدَدِ أم في الصِّفةِ ؟ أينَ مُقامُهما ؟ وأيَّانَ زَمانُهما ؟ وهل لهما إلى أنْ يتصالحا ساعةً مِن نهارٍ ؟ وأيُّهما يَعفو عن الآخَرِ؟!.
لا جَرَمَ أنَّ الجوابَ خُبْأةٌ في ضُلوعِنا ؛ ومِنّا المُجاهِرونَ بهِ ومِنّا الكاتِمُون ، وأكثرُنا ما لهم حِيلة ولا نفاذٌ إلى فرَجٍ ، وأمرُنا كأمرِ مَن وَصَفهم المتنبي 
بقولِهِ :
يَرَونَ المَوتَ قـُدَّامًا وخَلفـًا
فيَختارُونَ والمَوتُ اضْطِرارُ .
الشمسُ تترَقرَقُ مِن المشرِقِ فإنْ تطلعْ مِن المغرِبِ ؛ يَستقِمْ مَذهبُ أمريكا الديمقراطيُّ ؛ فيَنشرْ بأرضِنا نُعماهُ وغَضارَتَه.
لشَدَّ ما أرجو أنْ يَطِيشَ ظنّي وعَساهُ أنْ يُدحَضَ ببُلجَةِ العَمَلِ لا بدُلجَةِ الأمَلِ