الثلاثاء، 10 يوليو 2012

وا عَمَّتاهْ



غَرَّدَتْ مُوسيقى مِهْتافِي ؛ في تضاعِيفِ ثالِثِ الشُّهورِ مِن سَنتِنا هذهِ:
اثنتي عشرةَ وألفَينِ ، فأجَبْتُ فإذا صوتُ إحدى عَمَّاتي يَنسَكِبُ في أُذُنِي ، وهي بنتُ ستةٍ وسبعِينَ صَيفًا ، وإنها لَمِن أحَبِّ الناسِ عندي ، ومِن تهَدُّجِ صَوتِها وضعفِهِ أخذني الظنُّ أنَّ مرَضًا قضَّ مَضجَعَها أو جَهْدًا اختلسَ قُوَّتَها ، فسألتها: ما شأنُ صِحَّتِكِ فقالتْ : أحمَدُ اللهَ إليكَ وأُثنِي عليهِ ، ثم تأدَّى إليَّ الخَبَرُ أنها لماّ حادثتني كانتْ قد خرجتْ مُذ يومٍ مِن مُستشفًى رقدتْ فيها أسبوعًا في إثرِ جَلطةِ قلبٍ أتَتْها بَغتةً ، والطِّبُّ بالعراقِ امَّحَى رَونقُهُ تلِيَّةَ الغزوِ ؛ لأنَّ الأطبّاءَ أُولِي المَهارةِ واللطافةِ والصِّدقِ أحاطتْ بهم شُّرورٌ ما لها مِن دافِعٍ فقُتِلَ كثيرٌ وهاجَرَ كثيرٌ إلى أدنى الأرضِ وأقصاها وبَقِيَتْ كَوكبةٌ قليلونَ لا كِفايةَ بهم . ثم انقضَى شهرٌ وعمَّتِي يَنهشُ أحشاءَها السرطانُ نهشًا ؛ فعزَمَتْ على أنْ تتوجَّهَ تِلقاءَ لبنانَ لعَلّها تظفرُ برَأفةٍ وعِنايةٍ فتئُولَ إلى مَراتِعِ العافيةِ ، فأجْمَعَتْ أمرَها وأجَدَّتِ التحلِيقَ إلى مَقصِدِها فإذا تِجارةُ الطبِّ فيهِ كتِجارةِ الطِّبِّ بالعراقِ؛ على أنَّ لِلبنانيينَ زِيادَةً في مُواساةِ مَرضاهم والترَفُّقِ بهم، فرَضِيَتْ عمَّتي بأخَفِّ الضَّرَرَينِ مِن قِلَّةِ حِيلتِها ،وهكذا العراقيُّ لا خِيَرَةَ لهُ، وأُجرِي لها في الأمعاءِ عمليةٌ عَصِيبةٌ لم يَلتئمْ إكليلُ نجاحِها فأقامتْ أيامًا مَعدوداتٍ ريثما تسوفِي عِدَّةَ النقاهةِ ثمَّ قفلتْ إلى العراقِ وقد تبدَّدَ مالُها واحتدَّ دَاؤها ،وكأنَّ المتنبي يَنطِقُ بمُصابِها قائلاً:
وإنْ أسلمْ فما أبقَى ولكنْ
سَلِمْتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ.
الحِمامُ : الموتُ ، والمعنى أنه يَنتقِلُ مِن سببٍ للموتِ إلى سببٍ آخَرَ.
ولمّا تصرَّمَتْ مُدَّةٌ : شهرٌ أو شهرانِ آنَ أَيْنُ الصيفِ بأجَّتِهِ ولَهَبانِهِ ،
ولاتَ حِينَ كهرباءَ ما عدا سُوَيعاتٍ مُتفرِّقاتٍ تحنو وما تلبثُ أنْ تجْفوَ ؛ صَعُبَ على عَمَّتي المُقامُ والحالةُ تلكَ واخشَوشَنَ مَعاشُها فرَحَلتْ إلى لبنانَ رِحلةَ العَناءِ والصَّيفِ ، وبَينا هي هنالِكَ إذ غَشِيَها سُباتٌ (غَيبوبةٌ) ثمانيةَ أيامٍ حُسُومًا ، فتلظَّى قلبي هَلَعًا ، غيرَ أنّي كنتُ أُؤَمِّلُ نفسي بلُقيَتِها ، ونِلتُ بعضَ أمَلِي ؛ إذ أفاقتْ مِن سُباتِها وأخذتْ أُولى حِصَصِ الدواءِ الكيماوي وأنفقتْ بَقِيَّةَ دَنانيرِها ؛ وأصبحتْ لا عِندها مالٌ يُستلبُ منها ولا تعافٍ تنهَضُ بهِ ، ثمَّ كرَّ عليها السُّباتُ آخِرَ كرَّتَينِ ومَكثتْ تغفو على سَرِيرِ الفِقدانِ والضَّراءِ.
وعَشِيَّةَ الأحدِ أوَّلَ مِن أمسِ استأثرُ اللهُ بعَمَّتِي لِثمانِي ليالٍ خَلونَ مِن تموز ورَدَّ روحَها إليهِ وخَلَّى لِي ولِمُحِبِّيها جميلَ ما مضَى مِن فَواضِلِها وأصِيلَ ما ازدهَى مِن فضائلِها.
كم حَمِيَتِ الرَّجاءَةُ في خاطِري وقلتُ : لَئِنْ عاشتْ إلى دُونِ رمضانَ لآتِيَنَّها فلأبْتهِجَنَّ بصُحبتِها وحُلوِ حِديثِها ولأُطلِعَنَّها على آخِرِ مُسَوَّداتِي ولأُماشِيَنَّها في جبلِ الأرزِ والسلتيرِ وجونيه وجبيل ، ومَغارةِ جعيتا حيثُ صُوِّرتْ لي معها التصويرةُ المَغروزةُ في رأسِ المقالةِ ، إنّي حَسِبتُ لِقاءَها نائلاً لا مَرَدَّ لهُ ؛ فقضَى عليها رَيبُ المَنونِ فبعَّدها وحَرَمَنِي إيّاها ؛
فكنتُ كأبي تمامٍ يومَ قالَ:
قرَّبَتها المُنَى وباعَدَها النأيُ فأضحَتْ مِنّي قريبًا بَعِيدا
ألا ما أشَدَّ لَأواءَ العراقيِّ ! وما أفدَحَ الضَّيمَ الواقعَ بهِ ! ، الألَمُ يَقتفِي آثارَهُ ، والغَشَشَةُ يقعُدُونَ لهُ كلَّ مَرصَدٍ، والقهرُ يَنهَكُهُ حِقبةً فحِقبةً ، لكنهُ يَتصَبَّرُ لا بل يتبسَّمُ ولو على فِراشِ المَنيةِ ،وفؤادُهُ مُتعَلِّقٌ
بالخالقِ وحدَهُ.
هل أدلُّكم على أحسنِ ما في الأمرِ ؟!
عَمَّتي كتمَتْ عَنِّي نبأَ وَعكتِها لِئلاّ تُهَيِّجَ فِيَّ شُجُونًا لا صبرَ لي على احتمالِ مَضَضِهِا ، إذ هي تعلمُ أنَّما مَشاقُّ الحياةِ تَحُوطُني بأذاها، ويا ليتَها عَلِمَتْ أنَّ فِراقَها سَيِّدُ الأشجانِ ، وأضلاعِي مِن الأسَى مُوشِكاتٌ أنْ يَنتحِبْنَ بقولِ أبي العلاء المعري:
وأحمِلُ فيكَ الحُزنَ حَيًّا فإنْ أمُتْ
وألقَكَ لم أسلُكْ طريقًا إلى الحُزنِ
ربِّ امْنُنْ عليها بغَزِيرِ رضوانِكَ وألحِقها بالصالِحاتِ وأورِدْها أعالِيَ جَنَّاتِكَ وهَبْ لي مِن لدُنكَ سُلُوًّا ؛ بهِ أتقوَّى وتنجَلِي عنّي لوْعاتُ الفؤاد.