هُنا مَسألتانِ في اللغةِ كنتُ حَيْرانَ فيهما ما أعرِفُ للصَّوابِ سَبيلاً حتى قرأتُ حاشيةَ العلاّمةِ مُحَمَّدِ بنِ محي الدينِ بنِ عبدِ الحميدِ –رحمه اللهُ- فأفدتُهما ، ومِن دُونِهما جَمٌّ من المَسائلِ ضَمَّتها تِيكَ الحاشيةُ النفِيسةُ .
فأمَّا إحدى المَسألتَيْنِ فإدخالُ (أنَّ ومَعمولَيها : اسمَها وخَبَرَها ) على الفِعلِ الماضي (هَبْ) ؛ كأنْ أقولَ –مثلاً- : هَبْ أنَّ زيدًا مُسافِرٌ ، فعَلِمْتُ أنَّ ذلك جائزٌ ، وكنتُ أظنُّ (هَبْ) يدخلُ على مَفعُولَينِ صَرِيحَيْنِ فقط ؛ فأقولُ : هَبْ زيدًا مُسافِرًا .
و(هَبْ): فِعلُ أمْرٍ وهو مِن (أخواتِ ظنَّ) التي تنصبُ مَفعولَيْن أصْلُهما مبتدأٌ وخبرٌ ومَعناه : احسُبْ واعدُدْ ، تقولُ – مثلاً- ( هَبْ عَمْرًا عالِمًا) :
أي : احسُبْه واعدُدْه كذلك ، ولا يُستعملُ منه ماضٍ ولا مُضارعٌ في هذا المعنى.
قال العلامةُ (محي الدين) بعدما شرحَ بيتَ (ابنِ همامٍ السلوليِّ) الذي أورده (ابنُ عقيلٍ) في شرحِه (لألفية ابن مالكٍ) في بابِ (ظنَّ وأخواتها) وهو:
فقلتُ أجِرْني أبا مالكٍ وإلا فهَبْني امرأً هالِكا .
قال العلامةُ (عبدُ الحميدِ):
{واعلمْ أيضًا أنَّ الغالبَ على (هَبْ) أنْ يتعدَّى إلى مَفعولينِ صريحَينِ كما في البيتِ الشاهدِ ، وقد يدخلُ على (أنَّ) المُؤكدةِ ومَعموليها ، فزَعَمَ ابنُ سيده والجرمي أنه لَحْنٌ –أي خطأ- ، وقال الأثباتُ من العلماءِ المحققين : ليس لَحْنًا ، لأنه واقعٌ في فصيحِ العربيةِ . وقد رُوِيَ من حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ-رض- " هَبْ أنَّ أبانا ..."،، وهو – مع فصاحتِه- قليلٌ }.
وأمَّا المَسألةُ الأخرَى فترخيمُ غيرِ المُنادَى ضَرُورةً في الشِّعرِ ، وحِينَ كتبتُ قصيدةَ (آمِنْ بعقلِك) ختمتُها بترخيمِ غيرِ المنادَى فقلتُ :
إنَّ السلامة َ لا تكونُ لِمُبْحِرٍ ترَكَ السَّفِينَ تقودُها حِيتانُ.
فرخَّمتُ (السفينة) ، فلمَّا أسمَعتُ البيتَ أُستاذَيْنِ هما أعلمُ بالشعرِ مِني أنكرا عليَّ ما صنعتُ ، فلم آخُذ بقولِهما ؛ إذ خُيِّلَ إليَّ أنَّ ضروراتِ الشعرِ تسَعُ ترخيمَ غيرِ المنادى ،،، ذلك وفي كلمةِ ( السَّفِين) وجهٌ آخَرُ مَرضِيٌّ في الوزنِ والمعنى وهو كونُها جَمْعَ سَفِينةٍ ؛ فالسفينةُ تُجمَعُ على سُفُن وسفائن وسَفِين ،،، ثمَّ قرأتُ حاشيةَ العلامةِ ( محي الدين) في بابِ (الترخيم) فوجدتُه يقولُ:" وفي الشعرِ العربيِّ حذفُ بعضِ الكلمةِ بكلِّ حالٍ ، وإنْ لم تكن صالِحةً للنداءِ ؛ للضرورةِ ، كحذفِ بعضِ الضميرِ وبعضِ الحرفِ وبعضِ الاسمِ المقرونِ بأل ، وكلُّ هذه الأنواعِ لا تصلحُ للنداءِ ، فمِن ذلك قولُ لبيدِ بنِ ربيعة:
دَرَسَ المَنا بمُتالِعٍ فأبانِ فتقادمتْ ، فالحَبسِ فالسُّوبانِ
أرادَ "دَرَسَ المَنازِل " فحذف حرفينِ من الكلمةِ ......
ومنه قولُ النجاشيِّ :
فلستُ بآتِيهِ ولا أستطيعُهُ ولاكِ اسقِني إنْ كانَ ماؤكَ ذا فضْلِ.
فحَذَفَ النونَ مِن "ولكنْ " لاجتماعِ الساكنينِ ضرورةً لِيستقيمَ له
الوزنُ ....
ومِثلُ ذلك كثيرٌ في شِعرِ العربِ وهو-مع كثرتِه- بابٌ لا يحتمِله إلا الشعرُ ...".}.
لقد صدقَ العلامةُ محي الدين –رحمه اللهُ- عندما قالَ في خاتمةِ حاشيتِه على ألفية ابن مالكٍ {" قد تلاقت في هذا الكتابِ كتبٌ فأغنى عنها
جميعًا في حين أنه لا يُغني عنه شيءٌ منها"} . ذلك بأني قرأتُ شرحَ (ألفيةِ ابنِ مالكٍ) أربعَ مِرارٍ بل خَمْسًا أو أكثرَ فما ظفرْتُ بما يدفعُ جَهلي بِعُبابِه ؛ فأمَمْتُ سِواه مِن كتبِ النحوِ القديمةِ والحديثةِ فلم أجد كِفايتي في واحِدٍ منها ، ولا يزالُ الإنسانُ طالِبًا رَكوبَ العِلمِ ورُكوبَه حتى يُلحَدَ في رَمْسِه أو يُرْمَسَ في لَحْدِه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق