ألا
إنّهم مِن إفكِهم لَيَقولونَ : بغدادُ لِلثقافةِ العربيةِ عاصمةٌ ومَحَجٌّ سنةَ
ثلاثَ عشرةَ وألفَينِ فليَفِد عليها أهلُ الأمْصارِ الذينَ لم تزَلْ أعينُهم في
غِطاءٍ عن نَكبتِها الجُلَّى ؛ في حِينَِ مَضَى نيِّفٌ وعشرونَ عامًا والعراقيونَ
يَصطرِخُونَ : وا كُرْبتاهْ ؛ ولا مُغِيثَ لهم ، ومِن عَتِيقِ أمْرِهم وثابتِهِ
أنّهم كلما نزلتْ بهم رَزِيَّةٌ مِن دَانٍ أو ناءٍ كانتْ حالُهم على حَدِّ ما قاله
الشريفُ المُرتضَى:
كأنّنا اليَومَ من هَمٍّ تقسَّمَنا
نَهْبٌ بأيدِي وُلاةِ
السوءِ مُقتسَمُ.
فليتنا
نُولِيهِم نَظرةً وفِكرةً ونسَّاءَلُ : أفي عذابِهم ثقافةٌ لِلمُتنزِّهِينَ أم آياتٌ
لِلمُعتبرِينَ؟! كلاّ لا جَدَلَ ؛ تلكَ واللهِ سَجِيَّةٌ عُرِفتْ مِن الجَبابرةِ
أوَّلِهم وآخِرِهم ؛ نراهُم مَعَ المُتعَفِّفِ القرِيبِ مُقَتِّرِينَ حَشَشَةً يُبْدُونَ
لهُ بالنُّعاقِ قباحَتَهم ، ونراهُم مع المُتكلِّفِ الغرِيبِ مُبَذِّرِينَ بَشَشَةً
يُبْدُونَ لهُ بالنِّفاقِ مَلاحَتَهم ، ألم يَأتِكم نبأُ بغدادَ سنةَ ثِنتَي عشرةَ
وألفَينِ ؟! أصابَتِ القِدْحَ المُعَلَّى في تهَدُّمِ بُنيانِها وتراكُمِ أدرانِها
وتألُّمِ إنسانِها، والعَسكرُ اليومَ يُسَوِّرُونَ أحياءَها بجَحافِلِهم ؛ فلا
تلاقِيَ بينَ أهلِيها إلاّ بِالجَهْدِ ، والهلاكُ يَغشاها بتفجيرٍ أو بِرَصاصَةٍ
صَمُوتٍ،وعلى أبنِيَتِها وأفنِيَتِها تُعَلَّقُ بالقهْرِ شِعاراتٌ لِلتمْيِيزِ ؛
وفي طرُقاتِها مِيليشياتٌ تبطُِشُ شَهْرًا وتحتفِلُ يَومًا ، وطعامُ مَساكِينِها
أقلُّ مِن تصاوِيرِ الآلِهَةِ الجديدةِ فيها ؛ ولو رأيتُم مَتالِفَها وسمِعتُم
أنِينَ ضُعَفائها لجَثَوتُمْ عندَ وُحُولِها تنشِجُونَ بِمَقالةِ أبي تمامٍ:
لقدْ
أقامَ على بغدادَ ناعِيها
فليَبْكِها
لِخَرابِ الدهرِ باكِيها.
وبالعراقِ
مِيراثُ عَسْفٍ لا عاصِمَ منه ؛وسُجُونٌ غائلاتٌ سافِرةٌ وسُجُونٌ بالحِجابِ
مُتوارِيَةٌ ؛ فِيها مَخزاةٌ لا تنقطِعُ وجِلوازٌ لا يَرتدِعُ ، وما الناجي مِنها
بأحسنَ مِن الثاوي فيها؛ جاشَتِ الشَّقاوَةُ وعَمَّتِ البَلَدَ وما وَلَدَ.
ومَن
خَفِيَ الخَطبُ عليه فإنَّ إبليسَ وَلِيٌّ لِوَِزارةِ الثقافةِ وأفرُعِها ومَن
مالَ مَيلتَها وصارَ لِلساسةِ مِطواعًا ؛ صَحِفِيًّا كانَ أو أديبًا أو فنّانًا أو
خَلقًا آخَرَ ؛إنهم لِسانُ"الخَضراءِ" وطَليعةُ سُفَرائها ؛ فأكرِمُوا
عن زُورِهم سَمْعَكم ولا تقبلوا لهم شهادةً أبدًا ، وإذما يَدعُوكم إلى مَحفِلٍ
فأعرِضُوا عنهم تسلمُوا ؛ إنّما يَدعُونكم إلى غَشَشٍ وغِشاشٍ لِكي ترجعُوا إلى
بُلدانِكم فتشهَدُوا لهم ولِساسَتِهم بما يَدرَأُ عنهم سَيِّئاتِهم ؛ وإمَّا
يَأتِيَنّكم منهم رُسُلٌ لِيُضَيِّفوكم فتبَيَّنوا ؛ فإنْ أخبرُوكم بالحَقِّ غيرَ
مَنقوصٍ فهذا مِنهم شيءٌ عُجابٌ وفِيهِ بَراءتُهم ؛ وإنْ هُمْ قلَّبُوا الأُمُورَ
ومَوَّهُوا الحديثَ فالرَّسُولُ يَشِفُّ عن مُرسِلِهِ ، وليس العاملونَ في
الوَِزارةِ وأفرُعِها على مِنوالٍ واحدٍ ، ولعَلَّ منهمُ المُؤتَمَنَ الصَّدُوقَ
والإعلامُ عنه مُتغافِلٌ ،واعلموا أنْ ليس لِمَبانِي الفنونِ باقِيةٌ ،لقد صالَ
عليها الغُزاةُ ومُثقَّفوهم والغُلاةُ ومُعَلِّمُوهم والسُّرَّاقُ معهم
فدَمَّرُوها تدميرًا ،لكنَّ بعضَها يُستصلَحُ أيَّامَ مَقدَمِكم خِصِّيصَى؛ حتى
ترَوا مِن الأضالِيلِ ما يَخدَعُكم عن أنفسِكم فتمدحُوا الساسةَ ووَِزارتَهم على
ما زَيَّنُوهُ لكم بمِلياراتٍ مِن أموالِ الأراملِ واليتامَى، تِلكَ أمانِيُّهم؛
فهل أنتم مُنَوِّلُوهمْ إيَّاها وسائرونَ على طرِيقةِ مِهْيارٍ الدَّيلَمِيِّ إذ
خاطَبَ مَولاهُ:
يَمُرُّ المِهْرجانُ
وكلُّ عِيدٍ بِنِعمَتِكمْ فيُغنَمُ مِن جَدَاها
جَدَاها: جَدواها : عَطِيَّتِها.
إلى
أنْ قال:
عُرِفتُ
بِكمْ ؛ وكيفَ تُسِفُّ نفسِي وقد أعطيتمُوها ما كفاها
تُسِفُّ
نفسِي: تطلبُ الدَّنِيءَ.
وهاتِيكَ "وِدادٌ
الأُورفليةُ" شَيخةُ الثقافةِ العراقيةِ وغَنَّاؤها ؛كانَ لها قاعةٌ للفنونِ
مَشهُودَةٌ ؛ هِيَ في بغدادَ بمَنزِلةِ "بوبور" في باريسَ ؛ سُطِيَ عليها بُعَيدَ
الغزوِ قبلَ الحربِ الدِّينيَّةِ وفِتنتِها ، وأنَّى لِلفِتنِ أنْ يَنقلِعنَ وقد
حُكِّمَ الإكليروسُ المُتألِّهُ ورُدَّ إليه الأمْرُ كلُّهُ إنْ ظاهِرًا وإنْ
باطِنًا ؛ وهل لِحُكمِهِ مِن مُعَقِّبٍ ؟! وأُدخِلَ بإزائهِ لَفِيفٌ مِن القاعدةِ
المَعتوهةِ ؛ وكفَى بالعَتاهَةِ بلاءً ؛ ولَئِنْ أُمِيتَ لَفِيفُ القاعدةِ أو كاد
يَموتُ لَسَوفَ يُحيِيهِ الإكليروسُ المُتألِّهُ بالضرورةِ العقليةِ والتجرِيبيةِ
؛ أمَّا الضرورةُ العقليةُ فالضِّدُّ مُستلزِمٌ لِضِدِّهِ ولا يَلتقِيانِ في
حَيِّزٍ وأمَّا الضرورةُ التجريبيةُ فصَحائفُ التاريخِ مَلأى بالشواهِدِ ما
تقدَّمَ منها وما تأخَّرَ ، وشَبِيهٌ بهذا البابِ ما قاله عبدُ الملكِ بنُ مروانَ لما
قَتَلَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ العاصِ:واللهِ لقد قَتَلْتُه وإِنّه لأَعَزُّ عَليَّ
مِن جِلْدَةِ ما بَيْنَ عَينَيَّ ولكنْ لا يَخطِرُ فَحْلانِ في شَوْلٍ. خَطَرانُ
الفَحلِ: تحرِيكُ ذَنَبِه نشاطًا ، والشَّوْلُ: جَماعةٌ مِن النُّوقِ يكونُ لها
فحلٌ واحِدٌ ؛ كأنه يقولُ لا يجتمِعُ قَمَرانِ في سماءٍ ، وثالِثةُ الدَّواهِي
عَصَبيَّةُ الحِزبَينِ الثعلبِيَّةُ في أعالِي الشَّمالِ، هذا مَذهَبُ أمريكا ؛
فمَتى نفطَنُ لهُ ولها؟ وإنها لَحَرِيَّةٌ بأنْ يُقالَ فيها ما قاله جَريرٌ
للفرزدقِ يَهجُوهُ:
وكنْتَ
إِذا حَلَلْتَ بِدارِ قوْمٍ
رَحَلْتَ
بِخَزْيَةٍ وترَكْتَ عارَا.
إذا
جَرُؤَ الساسةُ على الدينِ فأضَلَّوا به وانتفعُوا فإنّهم على الثقافةِ أجْرَأُ ،
وانتفاعُ المُثقّفِ
بالثقافةِ أيسَرُ مِن انتفاعَ الفقيهِ بالدِّينِ ؛ فالأوَّلُ مَجْهُولُ الهَيئةِ
والآخَرُ مَعلومُها، وكِلاهما يُسَوِّسُ: يُسَيِّيسُ بِضاعتَهُ ، ولِلساسةِ مِنهما
الخُلاصةُ ، وكم مِرِّيدٍ تقحَّمَ حِصنَ الثقافةِ أو الدينِ أو سِواهما فاستوَى
على العَرشِ وفازَ بالوَجاهةِ والرَّفاهَةِ! وعَلامةُ ذلكَ أنْ لا مَكانَ
للمُثقَّفِ المُستقِلِّ ولا مَكانة ؛ بل هو بالأذِيَّةِ أجدَرُ وإلى المُنتأَى
أسرَعُ ، ورُبَّ مُثقَّفٍ قارَعَ العَسْفَ قدِيمًا وشَنَّعَ عليه؛ فلمَّا وَقَعَتْ
مُصيبةُ الغزوِ فرِحَ بها وطاوَعَ العَسْفَ وترَقَّقَ له، أولئكَ المُثقّفونَ -ولا
سِيَّما القُدواتُِ- خلَطُوا عَمَلاً صالِحًا وآخَرَ غيرَ ذلكَ، وإنَّ لهم
لَتَذكِرَةً في قولِ الشريفِ الرضي:
وَمِثْلُكَ إنْ أوْلَى الجَميلَ
أتَمَّهُ
وإنْ بَدَأَ الإحسانَ زادَ
ووَالَى.
ها
أنتم أُولاءِ أُعْلِمْتُمُ الضَّرَرَ وجاءكم مِن الأنباءِ ما فِيه مُزدَجَرٌ
وإنَّكم لَفِي امْتِحانٍ عَسِرٍ ؛ فخُذُوا النِّذارَةَ بِالحَزمِ ؛ وشاوِرُوا
الأخيارَ في دِيارِكم ؛ فإذا تحَرَّيتُمُ الرَّشَدَ فلا تكونوا لِلمُضِلِّينَ
عَضُدًا وادخلوا مِن المَظلومِ في مَحمَدَةٍ واذهبوا عن الظالِمِ في مَبعَدَةٍ ،
وإنْ غرُّوكم بِحِيلةٍ أو استرضَوكم بِعَطِيَّةٍ وحَللتُمْ بمُحتفلاتِهم فالمَأثمُ
قِسمةٌ بَينكم، ولن تُغنِيَ عنكم نِيَّاتُكم شيئًا ولو حَسُنتْ ، أما تستروِحُونَ
إلى قولةِ مَعروفٍ الرُّصافِيِّ:
عاهدتُ
نفسِيَ والأيَّامُ شاهِدةٌ
ألاَّ
أُقِرَّ على جَوْرِ السلاطِينِ.
حُرِّرَتِ
المقالةُ لِعَشرٍ بَقِينَ مِن آذارَ عامَ ثلاثةَ عشَرَ وألفينِ.
21
/ مارس/ 2013
(كلمتانِ في شركة وبنات) و ( ضُرِبَ مَثَلٌ فانتبهُوا له) هُما تعقيبتانِ دَوَّنتُهما فيما سلفَ وأفردتُ لكلٍ مَقالةً ؛ ثم نظرتُ فيهما نَظَرَ المُتنبِّهِ بعدَ بلاهةٍ فوجدتُ بهما تزكيةً للنفسِ ؛ لستُ لها بكُفءٍ ؛ فقَرَضْتُهما قرْضًا ، ويا حَبَّذا تبصِرَةُ المعَرِيِّ هذه:
تدَيَّنَ مَغرِبيٌّ بانتِحالٍ وعارَضَ بالتنحُّلِ مَشْرِقِيُّ
فصَمْتًا إنْ أردتُمْ أو مَقالاً فما في هذهِ الدنيا تقِيُّ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق